الأحد، يوليو ٠٦، ٢٠٠٨

المصلحة: بين حجة الإسلام الغزالي و شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

منذ زمان و لى رغبة فى التعليق على انتشار الأفكار الفقهية القائمة على المصالح المرسلة. المصلحة مفهوم صعب التحديد و يمثل صعوبات فلسفية عديدة. لا عجب إذن إن وجدنا الفقهاء قد اختلفوا فى الأخذ بالمصالح و فى كيفية الأخذ بها فى استخراج الأحكام الشرعية. من ضمن الصعوبات فى التعامل مع مفهوم المصلحة مشكلة الحسن و القبح العقليين. و مسألة الحسن و القبح هى السؤال الآتى: هل يجوز للعقل غير المؤيد بالوحى تقسيم الأفعال إلى حسن و قبيح؟ الإجابة لها تبعاتها فلو قلنا بالحسن و القبح العقليين و قلنا بخلق الله لأفعال العباد لجاز للعباد أن يروا فعل الله غير حسن. و الحل الأشعري للمسألة هو نفى الحسن و القبح العقليين تماما فالحسن هو فعل الله تعالى و حكمه و القبيح هو ما جاء مخالفا للشرع. و هذا واحد من اعتراضات حجة الإسلام (و هو أشعري) على المصالح المرسلة. الإعتراض الثانى و هو الأهم لا يتصل بأصول الديانة و يتلخص فى أن المصلحة مفهوم ملتبس و يحتاج تحديد فلا معنى لأن نقول مصلحة دون أن نقول مصلحة "من". هذا الإلتباس ليس مما يمكن الإلتفاف حوله و هو يفتح الباب لآراء متعددة.

مثلا يمكن أن نعرف المصلحة طبقا للمدرسة النفعية على إنها السعادة اأكثر للعدد الأكثر و المقصود هنا أن نقيم أى عمل طبقا لمجموع المنافع الناشئة عنه. و مثل هذا الكلام و هو جل كلام الإنجليز و الأمريكان ليس مما يلقى القبول لدى فقهاء المسلمين. فطبقا لكلام النفعيين فلا بأس بأن يفرض السلطان مكسا على الفقراء و يعطيه للأغنياء لاستثماره طالما كانت المنفعة الناشئة للأغنياء أكبر من الضرر الواقع على الفقراء.

هذا كلام فهمى لكلام حجة الإسلام و نموذج يدل على صواب رأيه فى أن الأخذ بالمصالح ملتبس و لا ينطرد. فماذا عن كلام شيخ الإسلام تقى الدين؟

عن الشيخ تقى الدين أنه قال كلام الأشاعرة أفضل من كلام المعتزلة فى أصول الديانة و كلام المعتزلة أفضل فى أصول الفقه. و أظن كلامه يدور على مسألة الحسن و القبح العقليين خاصة لأنه ذكرها فى كلامه فى غير موضع. و لا ريب إن التقى ابن تيمية كان على معرفة برأى الغزالي و هو كما رأينا رأى وجيه فكيف لا يقبله؟ و خلاف الشيخ فى هذه المسألة ينبنى على إنه لا ينظر للحسن و القبح بمنظار المصلحة و لكن بمنظار العدالة فالعدل حسن و الظلم قبيح ثم يلحق المصلحة بالحسن و القبح فالمصلحة الشرعية عند شيخ الإسلام فرع على العدل لا على تقييم المنافع و المضار. و مقاييس العدالة أسهل تحديدا من مقاييس المنافع لأن العدالة بطبعها لا تنسب لوجهة نظر طرف من الأطراف. فإن قال قائل إن السرقة منفعة للسارق ربما جاز ذلك فى العقول و لكن لا يجوز قول القائل إن السرقة عدل و ليست ظلما.

ثم إن لشيخ الإسلام خاصة أخرى فى الفقه زين بها الذهب الحنبلي و هى ما أحب أن أسميه بالوظيفية. فالشيخ ينظر لكل حكم من الأحكام طبقا لوظيفته فى الاجتماع ثم يطبق الأحكام و ينزلها على الحوادث ناظرا أساسا لنجاحها فى تأدية وظيفتها التى وضعت لها. و هذا فرق مهم بين طريقة الحنابلة و طريقة الشافعية فالشافعية أميل لاستخراج العلل من دلالات الألفاظ بينما يميل الشيخ لاستخراج العلل بالنظر للأغراض العملية من الأحكام.

و لكى نفهم هذا التوجه نذكر رأى الشيخ فى حادثة صلاة العصر ببنى قريظة. الواقعة هى أن الرسول صلى الله عليه و سلم أمر الناس بعد ذهاب الأحزاب ألا يصلوا العصر حتى يصلوا إلى بنى قريظة و كانوا قد خانوا عهد الرسول و حالفوا الأحزاب عليه. ثم كان من الصحابة من تأخر فبعضهم خشى ضياع العصر فصلاه فى الطريق و بعضهم صلى العصر قضاء بعد وصوله. و هذه الحديثة يستدل بها كثيرا من يقولون بأن كل مجتهد مصيب لأن الرسول لم يلم لا هؤلاء و لا هؤلاء. لا أرغب أن أتطرق لمسألة هل المصيب واحد أم لا و لكن المهم هو إن الشيخ يقول إن الصحابة الذين صلوا فى الطريق أفقه و إنهم هم الذين أصابوا فى هذه المسألة.

إن نظرنا للمسألة من الناحية اللفظية لما كان لكلام الشيخ مستند فالأمر واضح بالمنع من الصلاة حتى الوصول. و لكن إن نظرنا للمسألة من ناحية الوظيفة وجدنا إن الغرض الوحيد المعقول من أمر الرسول هو الإسراع فكأنه عليه الصلاة و السلام قال أسرعوا حتى تلحقوا بصلاة العصر فى بنى قريظة و كأن الغرض كان أن يصل المسلمون قبل الظلام و كانت العرب لا تقاتل بالليل. فالذى خشى فوات العصر فى الطريق قدر إنه لا سبيل للقيام بأمر الرسول و هو الوصول قبل المغرب فقام بحق الله فى إقامة الصلاة فى وقتها. أما من التزموا بمفهوم الكلام فقد فاتهم غرض الرسول (لأنهم لم يصلوا قبل المغرب) و فاتهم العصر.

و الناظر فى كلام شيخ الإسلام يجد إشارات مثل هذه لا يفصل فيها و إنما تعرض فى فتاويه قدس الله سره. و الذى يتتبعها يجد نمطا فقهيا واضحا.

المهم! الذى أراه إن الخلاف بين حجة الإسلام و الشيخ ليس خلافا مهما. فالشيخ لا ينكر كلام الغزالي فى اضطراب المصالح و لكنه يسلك منهجا مخالفا فهو ينظر للعدل على إنه المصلحة ثم ينظر لأغراض الشارع من الأحكام و ينظر لكيفية تحقيق هذه المقاصد أو الوظائف. فالشيخين يلتقيان فى النظر فى العلل و لكن الغزالي يجرد النظر فى فى الأحكام عن الحسن و القبح بينما يقول ابن تيمية بالحسن و القبح و يبنى ذلك أولا على العدل و ثانيا على تحقيق وظائف الأحكام و لعل هذه النزعة الوظيفية هى التى أدته للتوسع جدا فى سد الذرائع.

و للكلام بقية إن شاء الرحمن.

ليست هناك تعليقات: