السبت، أغسطس ٠٢، ٢٠٠٨

المزيد عن الحسن و القبح

فى تدوينة سابقة تكلمت عن إن رفض الشافعية للمصالح المرسلة (الإمام الغزالي تحديدا) و أخذ الحنابلة بها (إبن تيمية تحديدا) ليس خلافا جوهريا لأن هناك إختلاف أساسي بين طريقة النظر للحسن و القبح بين الطرفين. و الحق عندى هو أن الحنابلة أيضا لا يقبلون ما يعترض عليه الشافعية فنحن بحمد الله لا نفعية فى فقهنا الإسلامي و لكنهم يقولون بالحسن و القبح العقليين و من هنا يجوزون المصالح المرسلة.

و الحسن و القبح إما ذاتيان أو غير ذاتيين و الرأى الأول رأى المعتزلة و هو خطأ بين. رد الغزالي على اعتبار الحسن و القبح خاصتين ذاتيين بمسألة من يطلب منه أن يدل على مكان نبي مختبئ بغية إيذائه فلا خلاف بين العقلاء على إن الواجب فى هذه الحالة التضليل عنه فلو كان قبح الكذب ذاتيا لكان الواجب الدليل عليه و هو سخف واضح. و هذا الرد فى رأيى رد مقنع و لكنه ينفى أن يكون الحسن و القبح ذاتيان لا أن يكونا عقليان.

لكى نتبين رأى الحنابلة (إبن تيمية تحديدا) نجد كلاما لهم عن الكذب ينقله ابن مفلح فى الآداب الشرعية عن ابن القيم (و كلاهما من تلاميذ شيخ الإسلام). يقول إبن القيم إن الإنسان لو احتاج للكذب لاستخراج حق له فلا إثم عليه. هذا الرأى يشير بوضوح لأن قبح الكذب ليس ذاتيا و لكنه يرتبط بوظيفة الكذب فالكذب الذى يتوصل به إلى حق أو يرفع به ظلم ليس قبيحا و إن كان الأفضل ألا يضطر إليه و فى المعاريض مندوحة كما يقولون.

و هذه المسألة تبين ما أسلفته فى التدوينة السابقة من ربط علل الأحكام بوظائفها فى الإجتماع لا بقرائنها اللفظية.

و للحديث بقية إن شاء المولى.

الأحد، يوليو ٠٦، ٢٠٠٨

المصلحة: بين حجة الإسلام الغزالي و شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

منذ زمان و لى رغبة فى التعليق على انتشار الأفكار الفقهية القائمة على المصالح المرسلة. المصلحة مفهوم صعب التحديد و يمثل صعوبات فلسفية عديدة. لا عجب إذن إن وجدنا الفقهاء قد اختلفوا فى الأخذ بالمصالح و فى كيفية الأخذ بها فى استخراج الأحكام الشرعية. من ضمن الصعوبات فى التعامل مع مفهوم المصلحة مشكلة الحسن و القبح العقليين. و مسألة الحسن و القبح هى السؤال الآتى: هل يجوز للعقل غير المؤيد بالوحى تقسيم الأفعال إلى حسن و قبيح؟ الإجابة لها تبعاتها فلو قلنا بالحسن و القبح العقليين و قلنا بخلق الله لأفعال العباد لجاز للعباد أن يروا فعل الله غير حسن. و الحل الأشعري للمسألة هو نفى الحسن و القبح العقليين تماما فالحسن هو فعل الله تعالى و حكمه و القبيح هو ما جاء مخالفا للشرع. و هذا واحد من اعتراضات حجة الإسلام (و هو أشعري) على المصالح المرسلة. الإعتراض الثانى و هو الأهم لا يتصل بأصول الديانة و يتلخص فى أن المصلحة مفهوم ملتبس و يحتاج تحديد فلا معنى لأن نقول مصلحة دون أن نقول مصلحة "من". هذا الإلتباس ليس مما يمكن الإلتفاف حوله و هو يفتح الباب لآراء متعددة.

مثلا يمكن أن نعرف المصلحة طبقا للمدرسة النفعية على إنها السعادة اأكثر للعدد الأكثر و المقصود هنا أن نقيم أى عمل طبقا لمجموع المنافع الناشئة عنه. و مثل هذا الكلام و هو جل كلام الإنجليز و الأمريكان ليس مما يلقى القبول لدى فقهاء المسلمين. فطبقا لكلام النفعيين فلا بأس بأن يفرض السلطان مكسا على الفقراء و يعطيه للأغنياء لاستثماره طالما كانت المنفعة الناشئة للأغنياء أكبر من الضرر الواقع على الفقراء.

هذا كلام فهمى لكلام حجة الإسلام و نموذج يدل على صواب رأيه فى أن الأخذ بالمصالح ملتبس و لا ينطرد. فماذا عن كلام شيخ الإسلام تقى الدين؟

عن الشيخ تقى الدين أنه قال كلام الأشاعرة أفضل من كلام المعتزلة فى أصول الديانة و كلام المعتزلة أفضل فى أصول الفقه. و أظن كلامه يدور على مسألة الحسن و القبح العقليين خاصة لأنه ذكرها فى كلامه فى غير موضع. و لا ريب إن التقى ابن تيمية كان على معرفة برأى الغزالي و هو كما رأينا رأى وجيه فكيف لا يقبله؟ و خلاف الشيخ فى هذه المسألة ينبنى على إنه لا ينظر للحسن و القبح بمنظار المصلحة و لكن بمنظار العدالة فالعدل حسن و الظلم قبيح ثم يلحق المصلحة بالحسن و القبح فالمصلحة الشرعية عند شيخ الإسلام فرع على العدل لا على تقييم المنافع و المضار. و مقاييس العدالة أسهل تحديدا من مقاييس المنافع لأن العدالة بطبعها لا تنسب لوجهة نظر طرف من الأطراف. فإن قال قائل إن السرقة منفعة للسارق ربما جاز ذلك فى العقول و لكن لا يجوز قول القائل إن السرقة عدل و ليست ظلما.

ثم إن لشيخ الإسلام خاصة أخرى فى الفقه زين بها الذهب الحنبلي و هى ما أحب أن أسميه بالوظيفية. فالشيخ ينظر لكل حكم من الأحكام طبقا لوظيفته فى الاجتماع ثم يطبق الأحكام و ينزلها على الحوادث ناظرا أساسا لنجاحها فى تأدية وظيفتها التى وضعت لها. و هذا فرق مهم بين طريقة الحنابلة و طريقة الشافعية فالشافعية أميل لاستخراج العلل من دلالات الألفاظ بينما يميل الشيخ لاستخراج العلل بالنظر للأغراض العملية من الأحكام.

و لكى نفهم هذا التوجه نذكر رأى الشيخ فى حادثة صلاة العصر ببنى قريظة. الواقعة هى أن الرسول صلى الله عليه و سلم أمر الناس بعد ذهاب الأحزاب ألا يصلوا العصر حتى يصلوا إلى بنى قريظة و كانوا قد خانوا عهد الرسول و حالفوا الأحزاب عليه. ثم كان من الصحابة من تأخر فبعضهم خشى ضياع العصر فصلاه فى الطريق و بعضهم صلى العصر قضاء بعد وصوله. و هذه الحديثة يستدل بها كثيرا من يقولون بأن كل مجتهد مصيب لأن الرسول لم يلم لا هؤلاء و لا هؤلاء. لا أرغب أن أتطرق لمسألة هل المصيب واحد أم لا و لكن المهم هو إن الشيخ يقول إن الصحابة الذين صلوا فى الطريق أفقه و إنهم هم الذين أصابوا فى هذه المسألة.

إن نظرنا للمسألة من الناحية اللفظية لما كان لكلام الشيخ مستند فالأمر واضح بالمنع من الصلاة حتى الوصول. و لكن إن نظرنا للمسألة من ناحية الوظيفة وجدنا إن الغرض الوحيد المعقول من أمر الرسول هو الإسراع فكأنه عليه الصلاة و السلام قال أسرعوا حتى تلحقوا بصلاة العصر فى بنى قريظة و كأن الغرض كان أن يصل المسلمون قبل الظلام و كانت العرب لا تقاتل بالليل. فالذى خشى فوات العصر فى الطريق قدر إنه لا سبيل للقيام بأمر الرسول و هو الوصول قبل المغرب فقام بحق الله فى إقامة الصلاة فى وقتها. أما من التزموا بمفهوم الكلام فقد فاتهم غرض الرسول (لأنهم لم يصلوا قبل المغرب) و فاتهم العصر.

و الناظر فى كلام شيخ الإسلام يجد إشارات مثل هذه لا يفصل فيها و إنما تعرض فى فتاويه قدس الله سره. و الذى يتتبعها يجد نمطا فقهيا واضحا.

المهم! الذى أراه إن الخلاف بين حجة الإسلام و الشيخ ليس خلافا مهما. فالشيخ لا ينكر كلام الغزالي فى اضطراب المصالح و لكنه يسلك منهجا مخالفا فهو ينظر للعدل على إنه المصلحة ثم ينظر لأغراض الشارع من الأحكام و ينظر لكيفية تحقيق هذه المقاصد أو الوظائف. فالشيخين يلتقيان فى النظر فى العلل و لكن الغزالي يجرد النظر فى فى الأحكام عن الحسن و القبح بينما يقول ابن تيمية بالحسن و القبح و يبنى ذلك أولا على العدل و ثانيا على تحقيق وظائف الأحكام و لعل هذه النزعة الوظيفية هى التى أدته للتوسع جدا فى سد الذرائع.

و للكلام بقية إن شاء الرحمن.

السبت، يوليو ٠٥، ٢٠٠٨

فروقات غربية

(1)

ليسوا سواء

نميل للتعامل مع الغرب و كأنه وحدة متجانسة. نتكلم عن الحضارة الغربية و الفكر الغربي . رغم التشابه الظاهر بين أمم أوروبا و أمريكا الشمالية و أستراليا (الغرب) فإن الفروق بين أنظمتهم السياسية و ترتيباتهم الإجتماعية ليست فروقا هينة. من هنا نجد أن الكلام عن الغرب و مقارنة النظم الغربية بالإسلام لا يمكن أن يتم باللجوء للعموميات. لابد من التفصيل.

لكى تتضح الأمور أود أن أقارن بين النظامين الإنجليزي و الأمريكي فى تعاملهما مع الدين و علاقته بالسياسة. و الغرض من المقارنة تبيين أن المقولات الشائعة عن الديموقراطية و فصل الدين عن الدولة لا تنطبق بصورة دقيقة على الغرب كله و بالتالى فالتعلق بتفسيرات معينة للديموقراطية و ادعاء أنها "سبب" التقدم الغربي غير مقبول حتى من ناحية مطابقة تلك التفاسير للواقع الغربي. بكلام أوضح: حتى لو افترضنا إن اتباع الحضارة الغربية هو الطريق للتقدم فمن المستحيل الوصول لرؤية موحدة لكيفية التقدم لأن الحضارة الغربية نفسها غير متجانسة. أى محاولة لتسويق مفهوم موحد للغرب (تحت إسم الديموقراطية أو غير ذلك) هى محاولة خاطئة و بصورة أساسية.

على الناحية الأخرى فأى محاولة لتقديم صورة متجانسة للغرب الكافر تقع فى نفس الإشكال. كما إن محاولة تعريف رؤية إسلامية موحدة أيضا محكوم عليه بالفشل لتعدد الرؤى بين المسلمين (المعاصرين و القدماء).

(2)

الدين و الدولة

من الجدير بالملاحظة إن المسيحية ما زالت هى الديانة الرسمية لأنجلترا. فى الواقع الملك أو الملكة هو (أو هى) رأس الكنيسة الإنجليزية كما إنه رمز الدولة. و لا يخفى على أحد إن هذا الترتيب يناقض مناقضة واضحة أى كلام عن فصل الدين عن الدولة. كيف ينفصلان و رأس الدولة هو نفسه رأس الكنيسة!

هنا نجد مثالا يحسن أن ينظر له الساعين لعودة الدين للحياة العامة. فى إنجلترا الدين و الدولة مرتبطان و لكن من يحكم الآخر؟ الدولة. مثلا الإيمان بجهنم ليس من قواعد الإيمان المسيحي فى الكنيسة الإنجليزية. لماذا؟ لأن المجلس الخاص (الذى يشير على الملك أو الملكة) قرر ذلك رغم معارضة أعضاء المجلس من ممثلى الكنيسة!!

فى هذه القصة عبر كثيرة. أولها أن النظام الإنجليزى فى أصله قائم على نظرية مشابهة لنظرية أهل الحل و العقد. و على مدى التاريخ تطورت الطريقة التى يختار بها أهل الحل و العقد و لكن الإنجليز حافظوا على الطبيعة العامة للنظام بما فى ذلك كون كبار رجال الكنيسة (و بصورة تلقائية) من أهل الحل و العقد. العبرة الثانية أن ربط الدين بالدولة قد يكون بغرض تقييد السياسيين بالإلتزام بالدين و لكن فى النهاية قد يؤدى للعكس. و هذا الخطر مما يتهدد السعودية بالذات لطبيعة التفكير الدينى هناك الذى يرى أولوية رأي الأمير على أقوال الفقهاء! و هذه إشارة أخرى للساعين لعودة الخلافة. فمن السهل على الورق أن نطلب من الخليفة أن يكون من أهل الاجتهاد و لكن الواقع غير ذلك. فإذا جعلنا للخليفة سلطات دينية واسعة تتعلق بالأحكام الشرعية فلا نلومن إلا أنفسنا!

على الناحية الأخرى من الأطلسي نجد أن الدستور الأمريكي يمنع منعا باتا أن يحظى أى دين برعاية الدولة أو أن تعيق الدولة ممارسة الشعائر الدينية (التعديل الأول للدستور).

إذن أقوى دولة فى العالم تفصل الدين عن الدولة! لا داعى للنظر للإنجليز و تقاليدهم المتحجرة فلننظر للأحسن و الأقوى و نتبع الطريقة الأمريكية!

ليس ذاك كما قد يحب العلمانيون المصريون فالأمر فى أمريكا أعقد. للأمريكان كتاب مقدس و لكنه ليس الإنجيل و سدنة للكتاب و لكنهم ليسوا من القساوسة!

(3)

الدستور أم البرلمان

الإنجليز (و هم شعب متميز) يوكلون كل السلطات للبرلمان. فى الواقع الإنجليز ليس لهم دستور مكتوب مع إنهم أقدم ديموقراطية "غير منقطعة" فى العالم. و لأنهم لا دستور لهم فلا سبيل للحكم "بعدم دستورية" القوانين. و هكذا فما كان ممنوعا ربما يصبح مباحا و العكس على حسب الأصوات فى "مجلس العامة" و "مجلس السادة".

أما الأمريكان فنظامهم أعقد. للأمريكان دستور (بلا شك عندى هو أفضل الدساتير المكتوبة) يرسم تركيب الدولة و ما يمكن و لا يمكن للمجالس المنتخبة أو الرئيس أن يقرروه. و هنا تنشأ مشكلة: من يقرر إن كان قانون معين أو قرار رئاسي معين يوافق الدستور أو يخالفه؟ فى أمريكا مثل هذه القرارات فى يد المحكمة العليا. من يختار قضاة المحكمة العليا؟ الرئيس و لمدى الحياة أو التقاعد الإختياري. هل يستطيع الكونجرس نقض قرارات المحكمة العليا؟ لا، هل يستطيع الرئيس أن يفعل ذلك؟ لا.

إذن ها نحن أمام وثيقة ثابتة (الدستور) يقوم على تفسيرها فئة من المختصين غير المنتخبين و لا يمكن إقالتهم.

العجيب إنه عندما اقترح الإخوان أن يكون هناك هيئة من العلماء لمراجعة القوانين هاجت الدنيا اعتراضا على "الدولة الدينية" ثم لم يحر الإخوان جوابا إلا أن يقولوا إن رأى اللجنة غير ملزم! و هذا سخف ما بعده سخف فى دولة مثل مصر لها دستور و لها محكمة دستورية آراؤها (فى حدود علمى) ملزمة. فلا الإخوان كانوا فى حاجة لإقتراح لجنة جديدة و لا اعتراض المعترضين له معنى لأن عمل اللجنة المقترحة هو ذاته عمل المحكمة الدستورية و كل الفرق أن1) القوانين الموجودة تخالف الشريعة، 2) الدستور لا يشترط موافقة الشريعة. و هو عينه الخلاف الدائم حول المادة الثانية!

(4)

التاريخية!

هناك جدل حول التعامل مع نصوص الشريعة الإسلامية . و الإشكالية، باستخدام تعبيرات المستشار البشري، هى كيفية التوفيق بين "النص الثابت" و "الواقع المتحرك". هذه الإشكالية لا علاقة لها لا بالإسلام و لا بالشريعة الإسلامية فنفس الإشكال موجود فى أى نظام له دستور مكتوب أوقوانين مكتوبة. و فى مثل هذه الإشكالية نجد أن الناس فريقان. الفريق الأول يقول بإطلاق النص و الثانى بنسبية النص. فى حدود معرفتى بالقانون الأمريكي (و لست حقوقيا) فالطريقة الغالبة على عمل المحكمة الدستورية هى اعتبار النص مطلقا و متابعة واضعى الدستور على مقصودهم الأصلي. و هذه الطريقة هى عين طريقة الفقهاء المسلمين فى التعامل مع الكتاب و السنة. و أنا لا أرى لم يكون التعامل مع الكتاب و السنة بصور مطلقة تخلفا بينما التعامل مع نصوص الدستور الأمريكي بنفس الطريقة تقدما. أنا لا أريد أن أفضل رأى على آخر و لكنى أود أن ألفت الانتباه لأن طبيعة الخلاف لا تحتمل الوصف بالتخلف و الظلامية و أنه من الأفضل أن نناقش صلب الموضوع بدلا من التراشق بالكلمات.

بين من يفضلون التفسير النسبى للنصوص (الإسلامية) من يحبون التفريق بين القرآن و السنة. فهناك من يقول نأخذ بالقرآن مطلقا و نعتبر السنة أحكاما تاريخية. و هذا عبث لأن النظم القانونية عادة ما تعتبر السوابق القضائية (إما لكل المحاكم أو للمحكمة العليا التى هى فى مصر محكمة النقض). و اعتبار السوابق القانونية معناه إن تفسير {محكمة النقض} للنصوص ملزم لبقية المحاكم. فالعجب كل العجب ممن يعتبر قضاء الرسول حادثة تاريخية و قضاء محكمة النقص نصا ملزما!!

(خلاصة)

أحببت أن أعرض شيئا من تنوع المشارب فى الفكر التشريعي الغربي. و الغرض من ذلك هو حث أطراف الجدل القائم حول علاقتنا بالغرب و نظمه للإنتقال من مرحلة الأحكام التعميمية بالحسن و القبح للدراسة التفصيلية و محاولة فهم الإختلافات بين مفكرى الغرب و علاقتها بالخلافات الفقهية بين المسلمين قديما و حديثا.

و لعلنا نجد أرضية مشتركة للعمل.

و على الله قصد السبيل و منها جائر.

الاثنين، مارس ١٧، ٢٠٠٨

أحوال حارتنا

(1)

سم الهلال إذا ما شمته بدرا إن الأهلة عن قرب لأقمار

مرت بمصر فى السنوات القليلة الماضية بدءا بصيف 2005 أحداث كثيرة مشتبكة. ربما كان أهم هذه الأحداث بزوغ حركة كفاية و ما صحب ذلك من انتزاع حق التظاهر و نقد النظام و حتى أعلى مستوياته (ما يطلق عليه القيادة السياسية) و دخول الإخوان الإنتخابات و نجاحهم فى دخول مجلس الشعب بأعداد كبيرة (نسبيا) و لا ننسى ما كان من اعتصامات القضاة و ظهور أيمن نور و اختفائه. ليس لى رغبة فى حصر و تصنيف الأحداث و لكنى أظن الوقت قد حان لتحليل الأحداث فى إطارها العام و أن نحاول أن نفهم إن كانت هذه الأحداث أهلة تؤذن ببدر مونق أو أنها غير ذلك.

لكى نفهم ما حدث أظن أنه من الضروري أن يكون لدينا تصور مبسط عن مصر تظهر فيه الخطوط العريضة للمجتمع و تسمح لنا بالنظر فى الهيكل الأساسي للمجتمع لا فى تفصيلات ما قد يحدث من خلال هذا الهيكل. و لا أجد ما هو أقرب و أسهل للفهم و التخيل من حارة نجيب محفوظ الشهيرة و خاصة تناوله للحارة فى ملحمة الحرافيش. أود أن أنبه هنا أننى لا أرغب فى كتابة نقد للرواية أو تحليل لها و لكنى أستخدمها كخلفية لعرض الأفكار.

و ما أود أن أنبه عليه هنا أن لكل مجتمع هيكل يحدد طبيعة المجتمع و طريقة نموه و اضمحلاله و صحته و مرضه. هذا الهيكل يمكننا أن نشبهه بالأعضاء الحيوية فى الجسم كالقلب و الكبد و المخ. و لكن الجسم فيه أيضا لحم و شحم و عضلات. قد يزيد الشحم أو يقل أو تنتفخ العضلات أو تقل و لكن هذا لا يؤثر على صحة الجسم تأثيرا سريعا ملموسا كما تؤثر الأعضاء الحيوية. فما أن يصاب أحد هذه الأعضاء بما يعيقه عن أداء وظيفته حتى نلحظ تدهورا ملموسا فى صحة الجسد كله.

الطبيب الحاذق هو من ينظر إلى سلامة الأعضاء الحيوية أولا حتى إذا اطمئن لها شرع فى الإهتمام باستعادة الوزن و تكثير الطاقة و النشاط. أما الذى يشغل نفسه بحجم العضلات و القدرة على الركض فليس بالطبيب. كم مات من الناس من كان فى (ظاهرا) فى قمة الحيوية و النشاط و كم تعافى من كان لا يقوى على النهوض من فراشه.

هناك أولا الحارة و هى فى آن واحد مكان له موقع و جيرة و موارد و مداخل و مخارج كما إنها جماعة فيها الغني و الفقير و الرجال و النساء و الوجهاء و الحرافيش. و لكن الحارة ليست فقط مكان و جماعة و لكنها أيضا محل لارتباط روحي بين الجماعة و المكان و التاريخ. و التاريخ هنا ليس مجرد أساطير الحارة و قصصها عن ما كان و لكنه أيضا مؤسسات الحارة من فتونة و خمارة و مسجد و سبيل و مواقف أفراد الجماعة من هذه المؤسسات.

يقسم نجيب محفوظ الجماعة (الحارة كمجموعة من الناس) إلى حرافيش و فتوة (له عصابة) و وجهاء. ثم هناك التكية التى تمثل الجانب الروحي للجماعة. فى الملحمة التكية لا تتكلم لغة مفهومة لسكان الحارة و ربما يمثل هذا الإختيار موقفا خاصا للمؤلف من مكان الدين فى المجتمع و ربما لا. لا يهمنى هنا أن أتطرق لتفاصيل إختيارات محفوظ و لكنى سأضيف شخصية أساسية للحكاية: الشيخ.


الآن و قد وطئنا للشخصيات آن لنا أن نتعرف عليهم.