أصل الوقف ما كان من عمر رضى الله عنه عندما وقف أرض السواد على المسلمين. و أرض السواد هذه جل أرض العراق المزروعة و الله أعلم. و أنا أنقل هنا مما رواه الخطيب البغدادي فى تاريخ بغداد من نسخة موقع الوراق و العهدة
على الراوى و من أسند لك فقد حملك.
"أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز أنبأنا دعلج بن أحمد بن دعلج المعدل أنبأنا محمد بن علي بن يزيد الصايغ قال أنبأنا سعيد بن منصور نبأنا هشيم قال أنبأنا العوام بن حوشب أنا إبراهيم التميمي قال: لما افتتح المسلمون
السواد قالوا لعمر بن الخطاب أقسمه بيننا فأبى فقالوا: إنا افتتحناها عنوة قال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه وأخاف أن تقتتلوا فأقر أهل السواد في أرضهم وضرب على رؤوسهم الضرائب يعني الجزية
وعلى أرضهم الطسق يعني الخراج ولم يقسمها بينهم."
أى أن الأرض عليها ما يشبه الضريبة (فى العرف الحادث) يستوى فى ذلك المسلم و الذمي و تنفق على مصالح المسلمين. و هذا قبل أن يولد ماركس أو تبتلى الدنيا بنيرات أفكاره.
و هذه سنة سنها عمر رضي الله عنه و أجراها فى كافة البلدان المفتوحة بعد ذلك و لها منافع عديدة. منها أن أصحاب الأرض يستقرون فيها و يتقوتون من غلتها ثم يتكسبون من بيع الفائض. و هذا البيع يفيض الطعام فى الأسواق فيقل السعر و
يعم الرخاء. ثم أن للدولة نصيب من عائد الأرض يعين الدولة على إصلاح المرافق و دفع نفقات الجند و المعلمين و غيرهم مما تعم الحاجة إليهم. ثم إن هذا الدخل لا يتقيد بمصارف الزكاة فهو أعم فى المنفعة و عو أيضا لا ينقطع لاستمرار
إدرار الأرض عاما يعد عام.
و لكن الاهم من موضوع وقف الأراضى المفتوحة، و إن كانت قضية لها أبعاد خطيرة جدا لا نخوض فيها هنا، أن الوقف فى ذاته إستقر فى عوائد المسلمين و إن كان الواقف من عامة المسلمين و ليس الأمير. و فى جميع صوره و أشكاله
يحقق الوقف منافع للعاملين فيه و القائمين عليه و للمستفيدين منه و يسهم فى تنشيط الإقنصاد و وفر المعروض مما يقلل الأسعار.
و المجتمعات الإسلامية فى تاريخها الطويل تتميز بما أحب أن أسميه التحسين و التكيف. ففكرة الوقف فى مبدئها ارتبطت بالخليفة و بالحكومة و لكن مع مرور الزمن و تغير الأحوال صار الوقف مما يحرص عليه كل متيسر قل ماله أو كثر. و
استجاب الفقه للأحوال المستجدة فقرر قواعد للتعامل مع الأوقاف منها أن شرط الواقف كنص الشارع و هو ما أتاح الفرصة لأهل الخير من الأغنياء لإنشاء الأوقاف و تخصيصها لما يرون الحاجة تدعوا إليه. و هذه المرونة تتيح للمجتمع
الإستجابة لما ينشأ من حاجات دون الحاجة إلى تدخل الدولة بالتوجيه و التخطيط. و الملفت فى طريقة استجابة المجتمع المسلم للتغير أن المبدأ المستقر يظل كما هو و إنما يطرأ عليه التحسين و الإضافة تكيفا مع الوضع الناشئ لا أن المبدأ
المستقر يهدم بالكلية و يستبدل به أسلوب جديد.
و للوقف أثر حميد فى تحويل فوائض الأموال من باب النفقات إلى أن تدخل فى رؤوس الأموال و هى بذلك تحفظ ثروة المجتمع من التبديد و تستحث النمو و الوفرة.
نضرب مثلا.
إمرأة متيسرة صاحبة مكتب إستشارات هندسية. عملها هذا عمل منتج و مفيد للمجتمع و يتيح لها و لعائلتها حياة مريحة ناعمة. و الآن بعد ان تزوج الأولاد و البنات و شاب الشعر و انحنى الظهر تفكر السيدة العجوز فيما ستترك من أموال و عقار. أما أولادها فكل منهم له عمله الخاص و دخله المستقل و الينات كذلك بالإضافة لحالة أزواجهن المتيسرة. إذن فترك الميراث لهم لا يزيد عن إضافة رصيد إلى أرصدتهم فى المصارف. لن يستثمر المال و لن ينفق. لكن إن وقفت هى نصيبا من ثروتها على مكتبها و خصصت ريع المكتب للإنفاق مثلا على الفتيات اليتيمات أو الأرامل أو النساء ممن تركهن أزواجهن أو غير ذلك فإن هذا يضمن أشياء منها إستمرار العمل فى المكتب و اتصال أرزاق العاملين فيه من مهندسين و غيره و منها أن المال الموقوف يستثمر و يفيد المجتمع و منها الثواب الذى يصلها فى قبرها.
و قد يعترض معترض و يقول و من قال أن أولادها لن يستثمروا المال و يتصدقوا من ريعه؟
يضحك أبو العلاء.
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال "إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له."
نشهد أنه لم يترك بابا من الخير إلا دلنا عليه. عليه الصلاة و السلام.
الأربعاء، أبريل ١٢، ٢٠٠٦
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق